تعرق،بروده بالاطراف، تجمع الدم في الاقدام مما يشل حركتك، تسمع انفاسك وهي تخرج من انفك. تسمع الاصوات ولا تدرك ماذا يقولون! تبتسم لا ارادياً ثم تخنقك العبرة. يصبح المكان صامتاً بالكامل وكأنك تضغط زر Mute لكل ما حولك! السيارات،و المكيف،والناس، انا لا اسمع شيء. الى أن اصبح المكان مفرغ بالكامل! الى ان اصبحت اسمع دقات قلبي و اشعر بها في حلقي!
هذي هي مشاعر الصدمة إن اردت معرفتها.
إليك .. ايها الغائب الحاضر.
منذُ أن ودعتك ذلك المساء في مطار الرياض قبل اكثر من شهرين و انا أعلم انهُ وداعنا الأخير، و أن تلك القبلة على جبينك كانت الاخيرة وقبلة يدك ستكون آخر قبلة وانا اشعر بحرارة جسدك حياً! لم تكن تعلم انني بكيت في مواقف السيارات كثيراً. وللأسف لن تعلم بذلك. بعد ذلك الوداع لا اخفيك انني بكيت كثير وفي كل مكان بالخفاء وبالعلن، في المقهى الذي ارتاده بكيت و على سريري بكيت وفي الطائرة و السيارة بكيت و في البعيد هناك في شوارع لندن حين رأيت ذلك الذي يشبهك في نفس سنك ومحياك ولكنه يلبس بدلة الزينة ويتمشى و أنت تتلحف فراش المرض “اللهم لا اعتراض على قدرك”.تمنيتك معي هناك لحظتها، كنت اتخيل تعليقاتك ونكاتك.
في آخر زيارة للمستشفى وبعد ان اجتمع طاقمك الطبي ليخبروننا انك تحتضر وان السرطان انتشر في الكبد و ليس هناك طريقة لعلاجك. وكانت النصيحة الوحيدة هي ان ننقلك المنزل لتموت بيننا فقط! واتذكر حين عدت اليك لأخبرك ان مايقوله الاطباء هو ان تهتم في اكلك.
” http://wp.me/p75AR6-s3 “ ( سبق ان كتبت عن آخر زيارة)
وصلني الاتصال الذي كنت انتظره وانا لا أريدة ولكنني اعلم يقيناً انه سيرن هاتفي حاملاً هذا الخبر! ركبت اقرب طائرة وكانت اطول رحلة و اسوء شعور. لمح ذلك الصبي دموعي ولم يكف عن النظر في ومراقبتي الى ان وصلنا.
وصلت و ذهبت لكي أراك ولكن هذه المرة بشكل آخر مختلف ليس كالذي اعتدت عليه، هذه المرة كنت بارداً متصلباً و متجمداً من برودة ثلاجة الموتى! حين رأيتك لم اتمالك قواي وبكيت على صدرك ولكنك لم تصغ لي! وفي الطريق ونحن بالسيارة كنت اضع يدي على رأسك لكي لا يرتطم، لم يدرك عقلي بعد ان ما يجلس بجانبي هو مجرد جثة هامدة. مسجلة في قوائم المستشفى من ضمن الأسماء ولها رقم تسلسلي سوف يحل محله اسم آخر لجثه اخرى! مجرد رقم، خانة شاغرة في ثلاجة الموتى التي كانت مصممة بشكل شبكي لكي تحوي اكبر عدد ممكن من الجثث! من الاجساد المتجمدة الباردة التي هي في نظر ذويها اعظم من وطى على هذا الكون. حاولت تماسك نفسي ولكن لم استطع تقبل فكرة ان “أبي” تحول الى جسم بارد طويل ملفوف بقطعة بيضاء.
في المغسلة حين رأيتك ولكنك لم تراني، حين بكيت ولم تقل لي “الرجال مايبكي” حين قبلت كفك ولكنها كانت بارده جداً هذه المرة. حين كنت انظر للمغسل وهو يغسل بشدة جسدك الذي كنت أداريه دوماً على الكرسي المدولب احيان و من كرسي المستشفى احياناً اخرى، في كل مره يغسل بقوه اشعر بوخزة بقلبي. وحين رفع يدك وغسلها وافلتها فسقطت بشدة. كل تلك التفاصيل جعلتني استوعب انك حقاً رحلت!
لم يعلم المُغسل انك اعظم و اطيب من عرفت وان تلك اليد لم تضربني قط الا مره واحدة وكانت ضربة خجولة لا تكاد تؤلم طائر، وكانت تلك اليد تحمل شنطة المدرسة حين اخرج كل يوم، وانني واخواني اول الاولوليات في حياته ،و أن هذا الرجل حسدت كثيراً لانه أبٌ لي. الذكريات كانت تمر أمام ناظري و جسدك الطاهر يُغسل. حاولت تغسيله ولكنني لم استطع.
جلست على ذلك الكرسي اتأمله و أودعه بحرقة، كنت اخاطبه بصوت عالي:” ماعاد فيه إبر تعور يدك ولا مواعيد مستشفيات بالتخصصي والمدينة الطبية ولا تنويم ولا سحب مويات من بطنك ولا تحاليل ولا اشعة ولا عاد بتجيني الرياض عشان مواعيدك. ولا بستقبلك بالمطار ولا اودعك عند البوابة واتصل عليك اذا وصلت” ثم قبلت قدمه.
بعد صلاة الظهر، امام المسجد على المكبر يقول: “الصلاة على الميت”
وقفت بينهم ولم يدرك بعضهم ان من يقصده الامام هو ابي وليس مجرد ميت كما ينظرون إليه مجرد جثة ممدودة امام المصلين. وقفت بينهم وانا الاضعف وانا الخاسر الوحيد، لأول مره اشعر بالضعف الذي يعصر قلبي من الحرقة، وقفت خاسراً راضياً مجبراً حزين، باكي، تعيس، كل المشاعر كانت تعصف بي. انتهت الصلاة ولم تصلي معنا، لقد فوت الصلاة هذه المرة ايها الحريص! كنت احفظ مكانك الذي تصلي به دائماً في الصف الاول يسار الامام. فاتتك الصلاة لان هذه المره الصلاه عليك. انهض صلِ معنا واخبرني انني احلم وكل ما فات مجرد حلم!!!
في المقبرة جعلتني ابكي امامهم جميعاً وفضح امري وقد كنت تداري كبريائي دائماً ولا تريد ان تخجلني امام كائن من كان! و مع كل حفنه تراب تلقى على قبرك كنت اتألم من الداخل. غطى التراب جسدك.. انا لا اراك..اختفيت. ادركت حقاً رحيلك. انت غير موجود الآن ،انا فقط هنا. انا الضعيف انا الخاسر بين كل الحضور. رحلوا جميعاً وبقيت انا معك كما هي العادة في المستشفى يأتون وقت الزياره ثم يرحلون و اجلس انا وانت،تأتي الممرضة بالمغدي حين و بالاكل حين آخر، و اسندك لتأكل ثم اسدحك لتنام، واظل الليل معك والنهار. وفي كل مره تصحوا فيها تصر علي ان اعود البيت لأرتاح.
اما الآن فالوضع اختلف تماماً انت وحدك و أنا وحدي. بكيت كثيراً على قبرك، لم اكترث بالجموع الغفيره، فلقد اصبح الافق في نظري اضيق من الضيق نفسه، وقبل ان ارحل واتركك. زينت قبرك بالحجارة لأميزه حين اعود لزيارتك، واخذت بعض الحصى معي لكي اتذكرك، و حسنت قبر جارك الذي لا اعرفه ولا تعرفه ولكن كما عودتني بالمستشفى ان اتفقد الذي بجوارك ان كان يحتاج لشيء.
لقد اخبرتني امي عن آخر حديث دار بينكم وما قلته عني، ماقلته صحيح ولكنني رغم ماترى انني قوي ولا احتاج لأحد الا انني احتاج وجودك فقط ان تكون في الوجود بخير معافى وان لم اراك. ان كنت تراني رجل قوي فهذا بسببك انت، انت من اعطاني كل مساحة الحرية المققنة بكلمة واحدة فقط ” الرجال يبقى رجال” لم تضرب لم تهدد لم تتوعد لم تحرم لم تقف عائق امام اي شيء اريده. تلك الثقه المتناهية جعلتني لا اخشاك وانما اخجل منك. لو يسألني احد عن اعظم ما تعلمته منك سأقول هو انه اعتبرني رجلاً منذ ان كنت طفلاً.
قم انهض واطرد الذكريات اللعينة التي اخذت تعصف بذهني، من صوتك الذي كنت انتظر سماعه في مكبر صوت المسجد حين تتنحنح لقد كان يغمرني بالسعادة وانا صغير، الى هيئتك وانت تقف امام باب المدرسة. قم انهض فلقد سأمت تخيل الحياة من دون وجودك. صوتك، ضحكتك، نكتك الذي تكررها دائماً لانك تعلم انني احبها واضحك عليها في كل مره.
انتهت ايام عزائك ولكن لم ينتهي حزنك بعد! وفي العزاء لا احب ان يقول لي احد “احسن الله عزاكم” “غفر الله لميتكم” كنت في داخلي ارفض ان اتقبل هذه الكلمات، انت حي لم تمت. أخذت ثوبك و معطفك الطويل الأنيق سوف ارتديه في الوقت المناسب، الوقت الذي يجعلك تفخر بي وان كنت تحت الثرى.
النهاية..
الشيء الذي سيفقده ابنائي يوماً هو انهم حُرموا لقائك، حرموا لذة اللعب معك، والنظر لوجهك، أنا الآن اشعر بحسرة لأجلهم وانا لم اتزوج بعد! ويؤكد ذلك بكاء وانين ابناء اخواني على قبرك وهم مازالوا صغاراً.
ابنائي: لقد حُرمتوا لقاء رجل عظيم..الى اللقاء والدي العزيز.
من دفتر مذكراتي اثناء سفري وانا في الطائره، قبل وفاتك بشهر واحد.


“وقفت بينهم وانا الاضعف وانا الخاسر الوحيد” 💔
إعجابإعجاب
“نفس الخساره جربها الكثير
لكن ليس الكثير صمدوا لحجم الخساره “، البعض انهار نفسياً ، معنوياً، لكن المهم تبقى صامدا ان لا تنهار
كلياً لازال هناك ما ينتظره منا كل من خسرناه وهو (الدعاء )
اسأل الله ان يرحم اباك ويسكنه الجنه ويرحم موتى المسلمين 🌹
إعجابLiked by 1 person
سيمر كل هذا الألم، ولن تشعر بفقدانه أبداً ما دام حبهُ يُزهر داخلك.. ستفكر دائماً وكأنه سافر او مشغول بامور الحياة.. ستحكي عنه وتتذكر أقواله وكأنه ما زال بينكم.. ثم تبتسم ♥️.. احزن قدر ما تشاء.. كتب الله لهُ عمراً ثم اختباراً وأنزل رحمته عليه، فتوفاه.. كان صعباً جداً ان تنظر إليه بحالتهِ المتعبه، كان صعباً ان تتأمل ألمه وليس بيدك شيئ! .. جمعنا الله واياهم بجناتِ النعيم ♥️
إعجابLiked by 1 person
إبداع وصفك لمشاعرك غفر الله له واسكنه جنات النعيم وربط على قلبك من شدت وصفك نزلت دموعي هو يعلم انك قوي ويعلم انك رجل قادر على أن تمضي بحياتك الحزن حقك لك والكتابه متنفس اكتب اكتب سطر مشاعرك وعبر عنها فالتعبير راحة…
إعجابLiked by 1 person
لم أستطع حبس دموعي من بداية النص لاخره
كيف لك أن تكتب كل هذا الوجع
كيف للحرف أن يكون بهذا الألم
لقد مررت بوضع مشابه ولكني فقدت والدي بسن أصغر ورحل عن شهيدا دون سابق انذار
خرج من بيتنا فجرا محملا بسلاحه وعاد محمولا على الاكتاف قبل صلاة الظهر لنودعه
لطالما كنت انظر لأبي على أنه جبل نستند عليه وعندما رحل علك تتخيل حجم الانهيار
عزاؤنا أن الجنة الملتقى
صبركم الله
إعجابLiked by 1 person
❤️😔
إعجابإعجاب
فعلا انت الخاسر الوحيد
إعجابإعجاب
فعلا انت الخاسر الوحيد 💔😔
إعجابإعجاب
بكيت وبكيت وبكيت حتى اجهشت بالبكاء وكأن الآم الدنيا اجتمعت داخلي ، ما اصعب الفقد وما اصعب الحياة في حضور الموت
إعجابLiked by 1 person